الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)
.تفسير الآية رقم (9): {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِلْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، إِذْ لَا يَخْرُجُ عَنْ سُلْطَانِهِ أَحَدٌ، فَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ أَمْرَ مُلْكِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} رَبْطٌ بِأَوَّلِ السُّورَةِ: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [85/ 3]، فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، وَمِنْ ذَلِكَ فِعْلُ أُولَئِكَ، وَفِيهِ شِدَّةُ تَخْوِيفِ أُولَئِكَ وَتَحْذِيرُهُمْ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ، بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ فَلَنْ تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.وَقَدْ جَاءَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي شَهِيدٍ؛ لِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ هَذَا الْمَقَامِ، كَمَا فِيهِ الْمُقَابَلَةُ بِالْفِعْلِ، كَمَا كَانُوا قُعُودًا عَلَى النَّارِ وَشُهُودًا عَلَى إِحْرَاقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ سَيُعَامِلُهُمْ بِالْمِثْلِ، إِذْ يَحْرِقُهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَ: {فَتَنُوا} بِمَعْنَى أَحْرَقُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي كُلِّ مَنْ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَرُدُّوهُمْ عَنْهُ بِأَيِّ أَنْوَاعِ الْفِتْنَةِ وَالتَّعْذِيبِ.وَقَدْ رَجَّحَ الْأَخِيرَ أَبُو حَيَّانَ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى؛ لِيَشْمَلَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ بِالْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، وَتَوْجِيهِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ مِمَّا أَوْقَعُوهُ بِضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: كَعَمَّارٍ، وَبِلَالٍ، وَصُهَيْبٍ، وَغَيْرِهِمْ.وَيُرَجِّحُ هَذَا الْعُمُومَ الْعُمُومُ الْآخَرُ الَّذِي يُقَابِلُهُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [85/ 11] فَهَذَا عَامٌّ بِلَا خِلَافٍ فِي كُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ فِي مَقَامِ الْمَنْطُوقِ بِالْمَفْهُومِ مِنَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} كَمَا تَقَدَّمَ..تفسير الآية رقم (13): {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} قِيلَ: يُبْدِئُ الْخَلْقَ وَيُعِيدُهُ، كَالزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ وَالْإِنْسَانِ، بِالْمَوْلِدِ وَالْمَوْتِ، ثُمَّ بِالْبَعْثِ.وَقِيلَ: يَبْدَأُ الْكُفَّارَ بِالْعَذَابِ وَيُعِيدُهُ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [4/ 56].وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بِهَا أَوْفَرَ مَا تَكُونُ سِمَنًا، فَتَطَؤُهُ بِخِفَافِهَا، فَتَسْتَنُّ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا أُعِيدَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا، حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ فَيَرَى مَصِيرَهُ إِمَّا إِلَى جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ فِي صَاحِبِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالذَّهَبِ.وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ- وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [10/ 4]. وَقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [10/ 34].وَجَعَلَهُ آيَةً عَلَى قُدْرَتِهِ، وَدَلِيلًا عَلَى عَجْزِ وَنَقْصِ الشُّرَكَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَقَوْلِهِ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [21/ 104]..تفسير الآيات (17-18): {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} بَعْدَ عَرْضِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ؛ تَسْلِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَثْبِيتًا لَهُمْ، وَزَجْرًا لِلْمُشْرِكِينَ وَرَدْعًا لَهُمْ، جَاءَ بِأَخْبَارٍ لِبَعْضِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الْأُمَمِ وَفِرْعَوْنَ وَثَمُودَ، بَدَلٌ مِنَ الْجُنُودِ، وَهُمْ جَمْعُ جُنْدٍ، وَهُمُ الْكَثْرَةُ وَأَصْحَابُ الْقُوَّةِ، وَحَدِيثُهُ مَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ خَبَرِهِ مَعَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ.وَفِي اخْتِيَارِ فِرْعَوْنَ هُنَا بَعْدَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُشَابَهَةِ، إِذْ فِرْعَوْنُ طَغَى وَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، كَمَلِكِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الَّذِي قَالَ لِجَلِيسِهِ: أَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ وَلِتَعْذِيبِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِتَقْتِيلِ الْأَوْلَادِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ، وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ، وَلِتَقْدِيمِ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى صِدْقِ الدَّاعِيَةِ، إِذْ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدَّمَ لِفِرْعَوْنَ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، فَكَذَّبَ وَعَصَى، وَالْغُلَامُ قَدَّمَ لِهَذَا الْمَلِكِ الْآيَاتِ الْكُبْرَى: إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَجَزَ فِرْعَوْنُ عَنْ مُوسَى وَإِدْرَاكِهِ، وَعَجَزَ الْمَلِكُ عَنْ قَتْلِ الْغُلَامِ؛ إِذْ نَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ الْإِغْرَاقِ وَالدَّهْدَهَةِ مِنْ قِمَّةِ الْجَبَلِ، فَكَانَ لِهَذَا أَنْ يَرْعَوِيَ عَنْ ذَلِكَ وَيَتَفَطَّنَ لِلْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّ سُلْطَانَهُ أَعْمَاهُ كَمَا أَعْمَى فِرْعَوْنَ.وَكَذَلِكَ آمَنَ السَّحَرَةُ؛ لَمَّا رَأَوْا آيَةَ مُوسَى، وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا.وَهَكَذَا هُنَا آمَنَ النَّاسُ بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَوَقَعَ الْمَلِكُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ فِرْعَوْنُ، إِذْ جَمَعَ فِرْعَوْنُ السَّحَرَةَ؛ لِيَشْهَدَ النَّاسُ عَجْزَ مُوسَى وَقُدْرَتَهُ، فَانْقَلَبَ الْمَوْقِفُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلُ النَّاسِ إِيمَانًا هُمْ أَعْوَانُ فِرْعَوْنَ عَلَى مُوسَى، وَهَكَذَا هُنَا كَانَ أَسْرَعُ النَّاسِ إِيمَانًا الَّذِي جَمَعَهُمُ الْمَلِكُ لِيَشْهَدُوا قَتْلَهُ لِلْغُلَامِ.فَظَهَرَ تَنَاسُبُ ذِكْرِ فِرْعَوْنَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَمِ الطَّاغِيَةِ السَّابِقَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْكُلِّ عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ، وَلَكِنَّ هَذَا مُنْتَهَى الْإِعْجَازِ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ- وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.وَكَذَلِكَ ثَمُودُ، لِمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ مَظَاهِرِ الْقُوَّةِ وَالطُّغْيَانِ، وَقَدْ جَمَعَهَا اللَّهُ أَيْضًا مَعًا فِي سُورَةِ الْفَجْرِ فِي قَوْلِهِ: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} [89/ 9- 10]، وَهَكَذَا جَمَعَهَا هُنَا: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ}..تفسير الآية رقم (19): {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أَيْ: مُسْتَمِرٍّ فِي كُلِّ الْأُمَمِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الِانْشِقَاقِ قَبْلَهَا: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [84/ 22].فَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَحْمُودُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ نَصْرٍ تَاجُ الْقُرَّاءِ، فِي كِتَابِهِ أَسْرَارُ التَّكْرَارِ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّ الْمُغَايِرَةَ لِمُرَاعَاةِ رُءُوسِ الْآيِ وَالْفَوَاصِلِ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنَ السِّيَاقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُرَاعَاةُ السِّيَاقِ لَا فَوَاصِلُ الْآيِ؛ لِأَنَّ فِي سُورَةِ الِانْشِقَاقِ الْحَدِيثَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [84/ 19- 22].وَفِي سُورَةِ الْبُرُوجِ هُنَا ذَكَرَ الْأُمَمَ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَثَمُودَ، وَأَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَالْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [85/ 19] فَنَاسِبَ هَذَا هُنَا، وَنَاسَبَ ذَاكَ هُنَاكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ..سُورَةُ الطَّارِقِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ..تفسير الآيات (2-3): {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} أَصْلُ الطَّرْقِ فِي اللُّغَةِ: الدَّقُّ، وَمِنْهُ الْمِطْرَقَةُ؛ وَلِذَا قَالُوا لِلْآتِي لَيْلًا: طَارِقٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى طَرْقِ الْبَابِ.وَعَلَيْهِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:أَيْ جِئْتُهَا لَيْلًا، وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَقَوْلُ جَرِيرٍ: وَفِي الْحَدِيثِ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحِمَنُ»، فَهُوَ لَفْظٌ عَمَّ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي شَيْئُهُ الْمُفَاجِئِ، وَلَكَأَنَّهُ يَأْتِي فِي حَالَةٍ غَيْرِ مُتَوَقَّعَةٍ، وَلَكِنَّهُ هُنَا خُصَّ بِمَا فُسِّرَ بِهِ بَعْدَهُ فِي:قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ} فَقِيلَ: مَا يَثْقُبُ الشَّيَاطِينَ عِنْدَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [72/ 9] فَيَكُونُ عَامًّا فِي كُلِّ نَجْمٍ.وَقِيلَ: خَاصٌّ، فَقِيلَ: زُحَلُ، وَقِيلَ: الْمَرِّيخُ، وَقِيلَ: الثُّرَيَّا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ النَّجْمُ عِنْدَ الْعَرَبِ كَانَ مُرَادًا بِهِ الثُّرَيَّا.وَتَقَدَّمَ هَذَا لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّجْمِ.وَقِيلَ: {الثَّاقِبُ}: الْمُضِيءُ، يَثْقُبُ الظَّلَامَ بِضَوْئِهِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ لِلْجِنْسِ عَامَّةً؛ لِأَنَّ النُّجُومَ كُلَّهَا مُضِيئَةٌ.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ سُفْيَانُ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ، {وَمَا أَدْرَاكَ} فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَالَ فِيهِ: {وَمَا يُدْرِيكَ}، لَمْ يُخْبِرْهُ بِهِ.وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ الْغَالِبُ، فَقَدْ جَاءَتْ: {وَمَا أَدْرَاكَ} ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً، كُلُّهَا أَخْبَرَهُ بِهَا إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ فِي الْحَاقَّةِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [69/ 3]، وَمَا عَدَاهَا، فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِهَا، وَهِيَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} [74/ 27- 28].وَفِي الْمُرْسَلَاتِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [77/ 14].وَفِي الِانْفِطَارِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [82/ 17- 19].وَفِي الْمُطَفِّفِينَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [83/ 8- 9].وَفِي الْبَلَدِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ} [90/ 12- 13].وَفِي الْقَدْرِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [97/ 2- 3].وَفِي الْقَارِعَةِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [101/ 3].وَأَيْضًا: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [101/ 9- 11]، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ، فَكُلُّهَا أَخْبَرَهُ عَنْهَا إِلَّا فِي الْحَاقَّةِ.تَنْبِيهٌ.يُلَاحَظُ أَنَّهَا كُلُّهَا فِي قِصَارِ السُّوَرِ مِنَ الْحَاقَّةِ وَمَا بَعْدَهَا، أَمَّا: {مَا يُدْرِيكَ}، فَقَدْ جَاءَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَطْ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [33/ 63]، فِي الْأَحْزَابِ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [42/ 17]، فِي الشُّورَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [80/ 3] فِي عَبَسَ وَتَوَلَّى، فَلَمْ يُخْبِرْهُ فِيهَا صَرَاحَةً، إِلَّا أَنَّهُ فِي الثَّالِثَةِ قَدْ يَكُونُ أَخْبَرَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ: هَلْ هُوَ تَزَكَّى أَمْ لَا؟ إِلَّا أَنَّ لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّحْقِيقِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.تَنْبِيهٌ آخَرُ.قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِالسَّمَاءِ، وَبِالنَّجْمِ الطَّارِقِ؛ لِعَظَمِ أَمَرِهِمَا، وَكِبَرِ خَلْقِهِمَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [56/ 75- 76]؛ وَلِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. وَفِيمَا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- تَرْجِيحُ كَوْنِ مَوَاقِعِ النُّجُومِ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [53/ 1]: إِنَّمَا هُوَ نُجُومُ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِيلُهُ مُنَجَّمًا وَهُوَ بِهِ نُزُولُ الْمَلِكِ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} قِيلَ: {حَافِظٌ} لِأَعْمَالِهِ يُحْصِيهَا عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [50/ 18].وَقِيلَ: {حَافِظٌ} أَيْ: حَارِسٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [13/ 11]، وَالسِّيَاقُ يَشْهَدُ لِلْمَعْنَيَيْنِ مَعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [86/ 5- 7] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْمَرَاحِلِ فِي حِفْظٍ، فَهُوَ أَوَّلًا: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [23/ 13].وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا». الْحَدِيثَ.وَبَعْدَ بُلُوغِهِ سِنَّ التَّكْلِيفِ يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ، فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ، فَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ لَهُ مُتَعَلِّقٌ يَخْتَصُّ بِزَمَنٍ خِلَافِ الْآخَرِ. .تفسير الآية رقم (5): {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ}: {الْإِنْسَانُ} هُنَا خَاصٌّ بِبَنِي آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ عَامَّةً، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ آدَمُ وَلَا حَوَّاءُ وَلَا عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُ بَيَّنَ مَا خُلِقَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}.وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- بَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [16/ 4]، فِي سُورَةِ النَّحْلِ، وَفِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [56/ 58- 59]، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [76/ 2]، فِي سُورَةِ الدَّهْرِ..تفسير الآية رقم (8): {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}: {إِنَّهُ} هُنَا أَيْ: إِنَّ اللَّهَ: {عَلَى رَجْعِهِ}، الضَّمِيرُ فِيهِ قِيلَ: رَاجِعٌ لِلْمَاءِ الدَّافِقِ، أَيْ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى رَجْعِ هَذَا الْمَاءِ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ، كَرَدِّ اللَّبَنِ إِلَى الضَّرْعِ مَثَلًا، وَرَدِّ الطِّفْلِ إِلَى الرَّحِمِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ.وَقِيلَ: عَلَى رَجْعِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْأَوَّلِ دَلَالَةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، إِلَّا أَنَّ فِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الثَّانِي؛ لِعِدَّةِ أُمُورٍ:الْأَوَّلُ: أَنَّ رَدَ الْمَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ وَلَا أَمْرٌ آخَرُ سِوَى إِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ، بِخِلَافِ رَجْعِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ قَضِيَّةُ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ. وَيَتَعَلَّقُ بِهِ كُلُّ أَحْكَامِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.الثَّانِي: مَجِيءُ الْقُرْآنِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِعَادَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي يس: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ أَيْ: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [36/ 78- 79]، أَيْ: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}.الثَّالِثُ: أَنِ الْأَوَّلَ يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ لِ: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}، نَحْوُ اذْكُرْ مَثَلًا، بِخِلَافِ الثَّانِي، فَإِنَّ الْعَامِلَ فِيهِ: هُوَ: {لَقَادِرٌ}، أَيْ: لَقَادِرٌ عَلَى رَجْعِهِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ.وَنَقَلَ أَبُو حَيَّانَ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ قَوْلَهُ: وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ إِنَّمَا فَرَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ: {لَقَادِرٌ} هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى رَجْعِهِ مُقَيَّدَةٌ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ بِتَأَمُّلِ أُسْلُوبِ الْعَرَبِ يُعْلَمُ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى وَخَصَّصَ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْوَقْتَ الْأَهَمَّ عَلَى الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْجَزَاءِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْعَذَابِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُ. اهـ.فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي رَجْعِهِ عَائِدٌ لِلْإِنْسَانِ، أَيْ: بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْبَعْثِ، وَأَنَّ الْعَامِلَ هُوَ: {لَقَادِرٌ}.قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [10/ 30]، وَسَاقَ عِنْدَهَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي سُورَةِ الْعَادِيَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [100/ 9- 10]. وَقَدْ أَجْمَلَ ابْتِلَاءَ السَّرَائِرِ.وَكَذَلِكَ أَجْمَلَ الشَّيْخُ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ- بِإِيرَادِ الْآيَاتِ.وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَمَانَةُ التَّكْلِيفِ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَمَثَّلُوا لِذَلِكَ: بِالْحِفَاظِ عَلَى الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَحِفْظِ الصَّوْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْهُ الْعَقَائِدُ وَصِدْقُ الْإِيمَانِ أَوِ النِّفَاقُ، عِيَاذًا بِاللَّهِ.وَالسَّرَائِرُ: هِيَ كُلُّ مَا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ حَتَّى فِي الْمُعَامَلَاتِ مَعَ النَّاسِ، كَمَا فِي الْأَثَرِ: «الْكَيِّسُ مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَبِيئَةُ سِرٍّ»، وَقَوْلِهِ: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [67/ 13]، فَالسِّرُّ ضِدُّ الْجَهْرِ، وَقَالَ الْأَحْوَصُ:قَالَ أَبُو حَيَّانَ: سَمِعَهُ الْحَسَنُ، فَقَالَ: مَا أَغْفَلَهُ عَمَّا فِي السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ. .تفسير الآية رقم (10): {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} قَالُوا: لَيْسَ مِنْ قُوَّةٍ فِي نَفْسِهِ لِضَعْفِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [18/ 48].وَقَوْلُهُ: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [68/ 43]، أَيْ: مِنَ الضَّعْفِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ، وَلَا نَاصِرَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [18/ 43].وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [82/ 19].قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} قِيلَ: رَجْعُ السَّمَاءِ: إِعَادَةُ ضَوْءِ النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.وَقِيلَ: الرَّجْعُ: الْمَلَائِكَةُ تَرْجِعُ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ.وَقِيلَ: الرَّجْعُ: الْمَطَرُ وَأَرْزَاقُ الْعِبَادِ. وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ قِيلَ: تَنْشَقُّ عَنِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْبَعْثِ. وَقِيلَ: تَنْشَقُّ بِالنَّبَاتِ.وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ: أَنَّ الرَّجْعَ وَالصَّدْعَ مُتَقَابِلَانِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ: بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [80/ 24- 28]. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ..تفسير الآية رقم (13): {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}.قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَقٌّ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: حُكْمٌ عَدْلٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ أَيِ الْقُرْآنُ، يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.وَقِيلَ: هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعِيدِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [86/ 8- 9].وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ بِمَا قَالَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ أَوَّلًا، ثُمَّ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ الثَّانِي، أَيْ: أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ رَجْعِ الْإِنْسَانِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، قَوْلٌ فَصْلٌ، وَهَذَا مَا يُفِيدُهُ كَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَعَزَاهُ النَّيْسَابُورِيُّ إِلَى الْقَفَّالِ.وَسِيَاقُ السُّورَةِ يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا فِي مَعْرِضِ إِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَعْثِ، وَإِعَادَةِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، حَيْثُ تَضَمَّنَتْ ثَلَاثَةَ أَدِلَّةٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ:الْأَوَّلُ: السَّمَاءُ ذَاتُ الطَّارِقِ؛ لِعِظَمِ خِلْقَتِهَا، وَعِظَمِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْقُدْرَةِ.الثَّانِي: خَلْقُ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [36/ 79].الثَّالِثُ: مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ، أَيْ: إِنْزَالُ الْمَطَرِ، وَإِنْبَاتُ النَّبَاتِ وَهُوَ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا. فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْسَامُ عَلَى تَحَقُّقِ الْبَعْثِ.وَأَكَّدَ هَذَا مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْوَعِيدِ بِالْإِمْهَالِ رُوَيْدًا، وَقَدْ سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِيَوْمِ الْفَصْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [77/ 12- 15].وَذِكْرُ الْوَيْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُكَذِّبِينَ، يُعَادِلُ الْإِمْهَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِلْكَافِرِينَ، وَإِذَا رَبَطْنَا بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، لَكَانَ أَظْهَرَ وَأَوْضَحَ؛ لِأَنَّ رَجْعَ الْمَاءِ بَعْدَ فَنَائِهِ بِتَلْقِيحِ السَّحَابِ مِنْ جَدِيدٍ، يُعَادِلُ رَجْعَ الْإِنْسَانِ بَعْدَ فَنَائِهِ فِي الْأَرْضِ، وَتَشَقُّقُ الْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ يُنَاسِبُ تَشَقُّقَهَا يَوْمَ الْبَعْثِ عَنِ الْخَلَائِقِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ..تفسير الآية رقم (15): {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} نِسْبَةُ هَذَا الْفِعْلِ لَهُ تَعَالَى، قَالُوا إِنَّهُ: مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ كَقَوْلِهِ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [3/ 54]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [2/ 14- 15]، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَيِّ الطَّعَامِ يُرِيدُ، وَهُوَ عَارٍ يُرِيدُ كُسْوَةً:وَقَدِ اتَّفَقَ السَّلَفُ، أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ فِي مُقَابِلِ فِعْلِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ الْمُقَابَلَةِ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَفِي مَعْرِضِ الْمُقَابَلَةِ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَالْكَيْدُ أَصْلُهُ الْمُعَاجَلَةُ لِلشَّيْءِ بِقُوَّةٍ.وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ: وَالْعَرَبُ قَدْ تُطْلِقُ الْكَيْدَ عَلَى الْمَكْرِ، وَالْعَرَبُ قَدْ يُسَمُّونَ الْمَكْرَ كَيْدًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} [52/ 42]، وَعَلَيْهِ فَالْكَيْدُ هُنَا لَمْ يُبَيَّنْ، فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَكْرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ- رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ-بَيَانُ شَيْءٍ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [3/ 54]؛ بِأَنَّ مَكْرَهُمْ مُحَاوَلَتُهُمْ قَتْلَ عِيسَى، وَمَكْرُ اللَّهِ إِلْقَاءُ الشَّبَهِ، أَيْ: شَبَّهَ عِيسَى عَلَى غَيْرِ عِيسَى.وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [16/ 26]، وَهَذَا فِي قِصَّةِ النُّمْرُودِ، فَكَانَ مَكْرُهُمْ بُنْيَانَ الصَّرْحِ لِيَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ، فَكَانَ مَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ أَنْ تَرَكَهُمْ حَتَّى تَصَاعَدُوا بِالْبِنَاءِ، فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فَهَدَمَهُ عَلَيْهِمْ.وَهَكَذَا الْكَيْدُ هُنَا، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَاللَّهِ يَكِيدُ لَهُمْ بِالِاسْتِدْرَاجِ حَتَّى يَأْتِيَ مَوْعِدُ إِهْلَاكِهِمْ، وَقَدْ وَقَعَ تَحْقِيقُهُ فِي بَدْرٍ؛ إِذْ خَرَجُوا مُحَادَّةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَفِي خُيَلَائِهِمْ وَمُفَاخَرَتِهِمْ، وَكَيْدُ اللَّهِ لَهُمْ: أَنْ قَلَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ، حَتَّى طَمِعُوا فِي الْقِتَالِ، وَأَمْطَرَ أَرْضَ الْمَعْرَكَةِ، وَهُمْ فِي أَرْضٍ سَبْخَةٍ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي أَرْضٍ رَمْلِيَّةٍ فَكَانَ زَلَقًا عَلَيْهِمْ وَثَبَاتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ مَلَائِكَتَهُ لِقِتَالِهِمْ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
|